التحكيم وسيلة قانونية يلجأ إليها الأفراد والشركات لتسوية المنازعات بعيداً عن القضاء الرسمي، لما يتميز به من سرعة ومرونة وسرية. إن هذه المزايا جعلت منه خياراً مفضلاً في المعاملات التجارية والاستثمارية. ونتيجة لذلك، يكتسب حكم التحكيم حجية الأمر المقضي به، ويُعتبر نهائياً وواجب النفاذ. ومع ذلك، فإن هذه الحجية ليست مطلقة، بل تخضع لرقابة قضائية محدودة وحصرية عبر "دعوى بطلان حكم التحكيم" ، والتي تهدف إلى إلغاء الحكم إذا شابته عيوب شكلية أو إجرائية جسيمة، دون إعادة فحص موضوع النزاع.
وفي هذا السياق، يتناول هذا المقال الحالات التي تُبطل حكم التحكيم، مُقدماً إياها في إطار منهجي مع الإشارة إلى النصوص القانونية ذات الصلة في أبرز الأنظمة العربية وقانون الأونسيترال النموذجي.
أولاً: أسباب البطلان المتعلقة باتفاق التحكيم:
يُعَدُّ اتفاق التحكيم أساس وجود العملية التحكيمية وشرعية الحكم الصادر عنها. فإذا كان الاتفاق نفسه باطلاً، فإن الحكم الصادر بناءً عليه يُصبح قابلاً للبطلان. وتشمل هذه الحالات:
- عدم وجود اتفاق تحكيم أو بطلانه أو سقوطه: يُبطل الحكم إذا لم يوجد اتفاق تحكيم أصلاً بين الأطراف، أو إذا كان هذا الاتفاق باطلاً أو قابلاً للإبطال أو سقط بانتهاء مدته. وفي هذا الصدد، نصت المادة (50/أ) من نظام التحكيم السعودي ، والمادة (53/أ) من قانون التحكيم المصري ، والمادة (34/2/أ) من قانون الأونسيترال النموذجي على هذا السبب بشكل صريح.
- فقدان أو نقصان الأهلية: تُعد الأهلية الكاملة شرطاً أساسياً لإبرام اتفاق التحكيم ، وعليه، يُبطل الحكم إذا كان أحد طرفي اتفاق التحكيم فاقداً أو ناقصاً للأهلية وقت إبرامه للاتفاق . وقد أكدت المادة (50/ب) من النظام السعودي والمادة (53/ب) من القانون المصري على هذا الشرط.
- عدم قابلية النزاع للتحكيم: يُعتبر الحكم باطلاً إذا صدر في نزاع لا يجوز حسمه عن طريق التحكيم بموجب قانون الدولة ، كالمسائل المتعلقة بالمسائل الجنائية أو الأحوال الشخصية أو الإفلاس في بعض القوانين . وتقضي المحكمة المختصة ببطلان الحكم من تلقاء نفسها إذا وجدت أن موضوع النزاع غير قابل للتحكيم.
- عدم وضوح شرط التحكيم: يُعد شرط التحكيم غامضاً إذا لم يكن مكتوباً بوضوح ، مما قد يؤدي إلى بطلان الحكم، حيث إن الكتابة شرط أساسي لصحة الاتفاق.
ثانياً: أسباب البطلان المتعلقة بإجراءات التحكيم:
تتعلق هذه الأسباب بالعيوب التي قد تشوب سير العملية التحكيمية نفسها، وتؤثر على ضمانات العدالة الإجرائية. أبرز هذه الحالات:
- مخالفة قواعد تشكيل هيئة التحكيم أو تعيين المحكمين: يبطل الحكم إذا تم تشكيل هيئة التحكيم أو تعيين المحكمين على نحو يخالف القانون أو اتفاق الطرفين .
- الإخلال بحق الدفاع: يُعد هذا السبب من أهم الضمانات الإجرائية، ويتحقق في حالتين: إذا تعذر على أحد الأطراف تقديم دفاعه بسبب عدم إبلاغه إبلاغاً صحيحاً بتعيين المحكم أو بإجراءات التحكيم ، أو إذا لم يُمنح فرصة كافية لتقديم مرافعاته أو أدلته لأي سبب خارج عن إرادته.
- عدم حياد المحكم: يجب أن تتوفر في المحكم شروط معينة من الأهلية والحياد، وعليه، يبطل الحكم إذا ثبت أن المحكم لم يفصح عن ظروف قد تثير شكوكاً حول حيدته أو استقلاله.
ثالثاً: أسباب البطلان المتعلقة بالحكم ذاته:
تتعلق هذه الأسباب بالعيوب الجوهرية التي قد تشوب نص الحكم أو مضمونه، وتشمل:
- تجاوز هيئة التحكيم حدود اختصاصها: يُبطل الحكم التحكيمي إذا فصل في مسائل لا يشملها اتفاق التحكيم أو تجاوز حدود هذا الاتفاق. وتطبق غالبية القوانين مبدأ "البطلان الجزئي" في هذه الحالة ، حيث إذا أمكن فصل أجزاء الحكم التي تتعلق بالمسائل الخاضعة للتحكيم عن تلك التي لا تخضع له، فإن البطلان يقع على الأجزاء غير الخاضعة للتحكيم وحدها.
- مخالفة الحكم للنظام العام أو الشريعة الإسلامية: هذا السبب من أقوى أسباب البطلان، حيث تقضي المحكمة المختصة ببطلان الحكم من تلقاء نفسها إذا تضمن ما يخالف أحكام الشريعة الإسلامية أو النظام العام في الدولة. وقد نصت المادة (50) من النظام السعودي على أن المحكمة تقضي بالبطلان من تلقاء نفسها إذا تضمن الحكم ما يخالف أحكام الشريعة الإسلامية والنظام العام في المملكة.
- غياب الأسباب: يُعد الحكم باطلاً إذا لم تراع هيئة التحكيم الشروط الواجب توافرها في الحكم على نحو أثّر في مضمونه، كعدم تضمنه للأسباب التي بُني عليها.
- عدم وجود البيانات الشكلية الأساسية: يجب أن يتضمن الحكم بيانات أساسية، مثل أسماء المحكمين، وتاريخ ومكان الإصدار، وتوقيع المحكمين، وإلا فإنه يكون قابلاً للبطلان.
- تعارض الحكم مع حكم قضائي سابق: يُعتبر الحكم باطلاً إذا جاء متعارضاً مع حكم سابق نهائي صادر من محكمة أو هيئة قضائية لها ولاية الفصل في موضوع النزاع.
بطلان حكم التحكيم ليس أمراً عابراً، بل هو ضمانة أساسية تحافظ على عدالة هذه الوسيلة وموثوقيتها. فنجاح التحكيم لا يتحقق إلا باتفاق واضح، وإجراءات عادلة، وحكم مكتوب بعناية وحياد. وبذلك يظل التحكيم خياراً آمناً وفعالاً لتسوية النزاعات خارج أروقة المحاكم.
✍🏼 د. عبدالله بن علي العجلان
محامٍ، ومحكم، ومدرب معتمد
مستشار التطوير والتمكين للإدارات القانونية والشركات
رؤية ثلاثية تجمع بين (القانون، والقيادة، والحياة)
📧 Dr.alajlan@3a.sa
📱 +966503140401 (واتساب)
🌐 dr-alajlan.com